سورة الإسراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهي الصلاة، فقال: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}.
وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها: الصلوات المفروضة.
وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه، وأبو هريرة، وأبو برزة، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، واختاره ابن جرير. والقول الثاني: أنه غروب الشمس، قاله علي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وروي عن ابن عباس. قال الفراء: دلوك الشمس: من لدن زوالها إلى غروبها. قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالتين زائلة. قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس {إلى غسق الليل} فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وقرآن الفجر} هذه خمس صلوات.
وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها، ودلكت براح: يعني الشمس أي: غابت، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح *** ذبَّب حتى دلكت براح
اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام، ومن ذلك قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها *** نجوم ولا بالآفلات الدوالك
أي: الغوارب، وغسق الليل: اجتماع الظلمة. قال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق: إذا أقبل بظلامه، قال أبو عبيد: الغسق: سواد الليل. قال قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا *** واشتكيت الهمّ والأرقا
وقيل: غسق الليل: مغيب الشفق، ومنه قول زهير:
طلت تجود يداها وهي لاهية *** حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وأصل الكلمة من السيلان يقال: غسقت: إذا سالت.
وحكى الفراء غسق الليل وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى وأدجى، وغبش وأغبش، وقد استدل بهذه الغاية، أعني قوله: {إلى غسق الليل} من قال: إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، روي ذلك عن الأوزاعي، وأبي حنيفة وجوّزه مالك والشافعي في حال الضرورة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك. قوله: {وقرآن الفجر} انتصاب {قرآن} لكونه معطوفاً على {الصلاة} أي: وأقم قرآن الفجر، قاله الفراء.
وقال الزجاج والبصريون: انتصابه على الإغراء: أي فعليك قرآن الفجر. قال المفسرون: المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن: «وقرآن معها»، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وقد حررته في مؤلفاتي تحريراً مجوّداً.
ثم علّل سبحانه ذلك بقوله: {إن قرآن الفجر مشهوداً} أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}: {من} للتبعيض، وانتصابه على الظرفية بمضمر، أي: قم بعض الليل فتهجد به، والضمير المجرور راجع إلى القرآن، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء، والتقدير: عليك بعض الليل، فبعيد جداً، والتهجد مأخوذ من الهجود. قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد، لأنه يقال: هجد الرجل: إذا نام، وهجد: إذا سهر، فمن استعماله في السهر قول الشاعر:
ألا زارت وأهل منى هجود *** فليت خيالها بمنى يعود
يعني: منتبهين، ومن استعماله في النوم قول الآخر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود *** فباتت بعلات النوال تجود
يعني: نياماً.
وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج، أي: تجنب الإثم والحرج، فالمتهجد: من تجنب الهجود، فقام بالليل.
وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم، هكذا حكى عنه الواحدي، فقيد التهجد بالقيام من النوم، وهكذا قال مجاهد، وعلقمة، والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم. قال الليث: تهجد إذا استيقظ للصلاة {نَافِلَةً لَّكَ} معنى النافلة في اللغة: الزيادة على الأصل، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر، وقيل: المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل: كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة، ولأمته تطوع. قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات، لا للكفارات، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا، إنما نعمل لكفارتها، قال: وهو قول جميع المفسرين. والحاصل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبيّ في قوله: {أَقِمِ الصلاة} فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل، فإنه يعمّ جميع الأمة، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف.
ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} قد ذكرنا في مواضع أن {عسى} من الكريم إطماع واجب الوقوع، وانتصاب {مقاماً} على الظرفية بإضمار فعل، أو بتضمين البعث معنى الإقامة، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي: يبعثك ذا مقام محمود؛ ومعنى كون المقام محموداً: أنه يحمده كل من علم به.
وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال: الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل، قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة. القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة. ويمكن أن يقال: إن هذا لا ينافي القول الأوّل، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد. القول الثالث: أن المقام المحمود: هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث.
وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث. قال ابن عبد البرّ: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا، والثاني في تأويل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 23]. قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر. انتهى. وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة. القول الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة، فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله: «وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد» أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق، كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا. وقيل: المراد: الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله، يعني: لفظ المقام، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف، فلا نطيل بذكره. {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ}. قرأ الجمهور {مدخل صدق ومخرج صدق} بضم الميمين. وقرأ الحسن، وأبو العالية، ونصر بن عاصم بفتحهما، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي: إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً، ولا يرى فيه ما يكره.
قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير، وقيل: المعنى: أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل: المعنى: أدخلني فيما أمرتني به، وأخرجني مما نهيتني عنه، وقيل: إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأوّل، وقيل: المراد إدخال عزّ وإخراج نصر، وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق، وقيل: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق. وقيل: الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء، ومعناها: ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها. {واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} أي: حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل: اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوّياً وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً. وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح لأنه لا بدّ مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25] وفي الحديث: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، أي: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع. انتهى. {وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل} المراد بالحق: الإسلام، وقيل: القرآن، وقيل: الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان، والمراد بالباطل: الشرك، وقيل: الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل. ومعنى زهق: بطل واضمحل، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} أي: إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائماً. {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} قرأ الجمهور {ننزل} بالنون. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، و{من} لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس. وقيل: للتبعيض، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين: الأوّل: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه.
القول الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه. ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]. ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} أي: ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان {إَلاَّ خَسَارًا} أي: هلاكاً، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّداً وعناداً، فعند ذلك يهلكون؛ وقيل: الخسار: النقص كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} أي: على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى {أَعْرَضَ} عن الشكر لله والذكر له {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} النأي: البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة، وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي: ناحيته، والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا: الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويراد بالنأي بجانبه: التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر: {ناء} مثل باع بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة: {ناءى} بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} من مرض أو فقر {كَانَ يَئُوساً} شديد اليأس من رحمة الله، والمعنى: أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال: لا منافاة بين الآيتين، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} الشاكلة قال الفراء: الطريقة، وقيل: الناحية، وقيل: الطبيعة، وقيل: الدين، وقيل: النية، وقيل: الجبلة، وهي مأخوذة من الشكل، يقال: لست على شكلي ولا على شاكلتي، والشكل: هو المثل والنظير.
والمعنى: أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} لأنه الخالق لكم، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم. ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} قد اختلف الناس في الروح المسئول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} أي: إنكم لا تعلمونه، وقيل: الروح المسئول عنه جبريل، وقيل: عيسى، وقيل القرآن، وقيل: ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل: خلق كخلق بني آدم، وقيل: غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} {من} بيانية، والأمر: الشأن، والإضافة للاختصاص، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل: معنى {مِنْ أَمْرِ رَبّى} من وحيه وكلامه لا من كلام البشر. وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أي: أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام.
وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: {دلوك الشمس}: غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس: دلكت الشمس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها: غروبها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس، قال: {لِدُلُوكِ الشمس}: لزوال الشمس.
وأخرج البزار، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دلوك الشمس زوالها» وضعف السيوطي إسناده.
وأخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله.
وأخرج عبد الرزاق عنه قال: «دلوك الشمس: زياغها بعد نصف النهار».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها: زوالها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عنه في قوله: {لِدُلُوكِ الشمس} قال: إذا فاء الفيء.
وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر».
وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}.
وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه. ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس»، وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار، عن أبي عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنبري، عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله: {إلى غسق الليل} قال: إلى العشاء الآخرة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: {غَسَقِ اليل} اجتماع الليل وظلمته.
وأخرج ابن جرير عنه قال: {غَسَقِ اليل}: بدّو الليل.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: دلوك الشمس: إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل: غروب الشمس.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وقرآن الفجر} قال: صلاة الصبح.
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها»، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ: «تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر»، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه.
وأخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {نَافِلَةً لَّكَ} يعني: خاصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر بقيام الليل وكتب عليه.
وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ عليّ فرائض وهنّ لكم سنّة: الوتر، والسواك، وقيام الليل».
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله: {نَافِلَةً لَّكَ} قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة، وفي لفظ: إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} وسئل عنه، قال: «هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي».
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ، ويكسوني ربى حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود».
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان، اشفع، يا فلان، اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً.
وأخرج عنه نحوه مرفوعاً، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها.
وأخرج الطبراني في قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته، فذلك المقام المحمود.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} قال: يجلسني معه على السرير» وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين.
وأخرج أحمد، والترمذي، وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا}.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} الآية، قال: أخرجه الله من مكة مخرج صدق، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال: وعلم نبيّ الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم.
وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} و{جَاء الحق وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} قال: تباعد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كَانَ يَئُوساً} قال: قنوطاً، وفي قوله: {كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} قال: على ناحيته.
وأخرج هناد، وابن المنذر عن الحسن قال: على شاكلته: على نيته.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد، ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً}.
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن حبان، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]. وفي الباب أحاديث وآثار.


لما بيّن سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلاّ قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} واللام هي الموطئة، و{لنذهبن} جواب القسم سادّ مسد جواب الشرط. قال الزجاج: معناه: لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر. انتهى. وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ} أي: بالقرآن {عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجد من يتوكل علينا في ردّ شيء منه بعد أن ذهبنا به، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} إن كان متصلاً فمعناه: إلاّ أن يرحمك ربك فلا نذهب به، وإن كان منقطعاً فمعناه: لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه. ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أظهر في مقام الإضمار، ولم يكتف بأن يقول: لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور، لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان، وهو جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة، وسادّ مسدّ جواب الشرط، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي: عوناً ونصيراً، وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يأتون بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال، وقد تقدّم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. وفي هذه الآية ردّ لما قاله الكفار: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31]، وإكذاب لهم. ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} أي: رددنا القول فيه بكلّ مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين والجنة والنار والقيامة {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} يعني: من أهل مكة، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال: {فأبى أكثر الناس} توكيداً أو توضيحاً، ولما كان {أبى} مؤولاً بالنفي، أي: ما قبل، أو لم يرض، صح الاستثناء منه قوله: {إِلاَّ كُفُورًا}.
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث، ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً}. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم {حتى تفجر} مخففاً، مثل: تقتل. وقرأ الباقون بالتشديد، ولم يختلفوا في {فتفجر الأنهار} أنها مشدّدة، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع.
وأجيب عنه: بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب. ويردّ بأن الينبوع: عين الماء، والجمع: الينابيع، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع، والياء زائدة كيعبوب، من عبّ الماء. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي: بستان تستر أشجاره أرضه. والمعنى: هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة {مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار} أي: تجريها بقوة {خلالها تَفْجِيرًا} أي: وسطها تفجيراً كثيراً {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} قرأ مجاهد: {أو تسقط} مسنداً إلى السماء. وقرأ من عداه: {أو تسقط} على الخطاب، أي: أو تسقط أنت يا محمد السماء. والكسف بفتح السين جمع كسفة. وهي قراءة نافع وابن عامر، وعاصم، والكسفة: القطعة. وقرأ الباقون: {كسفاً} بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ بإسكان السين جعله واحداً ومن قرأ بفتحها جعله جمعاً. قال المهدوي: ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة، ويجوز أن يكون مصدراً. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كِسْفٌ وكِسَفٌ، ويقال: الكسف والكسفة واحد، وانتصاب {كسفاً} على الحال، والكاف في {كما زعمت} في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف، أي: إسقاطاً ممائلاً لما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء} [سبأ: 9]. قال أبو علي: الكسف بالسكون: الشيء المقطوع، كالطحن للمطحون، واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفاً: إذا قطعته.
وقال الزجاج: من كسفت الشيء، إذا غطيته، كأنه قيل: أو تسقطها طبقاً علينا {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً}.
اختلف المفسرون في معنى {قَبِيلاً} فقيل: معناه: معاينة، قاله قتادة وابن جريج، واختاره أبو علي الفارسي فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير. وقيل: معناه: كفيلاً، قاله الضحاك، وقيل: شهيداً، قاله مقاتل، وقيل هو جمع القبيلة، أي: تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، قاله مجاهد وعطاء، وقيل: ضمناً، وقيل: مقابلاً كالعشير والمعاشر. {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ} أي: من ذهب، وبه قرأ ابن مسعود، وأصله: الزينة، والمزخرف: المزين، وزخارف الماء: طرائقه، وقال الزجاج: هو الزينة، فرجع إلى الأصل معنى الزخرف، وهو بعيد؛ لأنه يصير المعنى: أو يكون لك بيت من زينة {أَوْ ترقى فِى السماء} أي: تصعد في معارجها يقال: رقيت في السلم: إذا صعدت وارتقيت.
مثله {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ} أي: لأجل رقيك، وهو مصدر نحو: مضى يمضي مضياً، وهوى يهوي هوياً {حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} أي: حتى تنزل علينا من السماء كتاباً يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعاً، أو يقرؤه كل واحد منا، وقيل: معناه: كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم، والتنزيه للربّ سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال: {قُلْ سبحان رَبّى} أي: تنزيهاً لله عن أن يعجز عن شيء. وقرأ أهل مكة والشام: {قال سبحان ربي} يعني النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا} من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء {رَسُولاً} مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها؟ وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك، لأن بها يتبين صدقه، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري، ولا دعت إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات، وطلب لنفسه إظهار آيات، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وتنزّه عن تعنتاتهم، وتقدّس عن اقتراحاتهم.
وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل: كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسري عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلاّ رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وقد روي عنه هذا من طرق.
وأخرج ابن عدّي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفاً.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي هريرة موقوفاً نحوه أيضاً.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة؟ فقال لهم: «والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله» قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} الآية.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب، ورجلاً من بني عبد الدار، وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه، وأن ذلك كان سبب نزول قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله: {بَشَرًا رَّسُولاً}. وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا محمد بن إسحاق، حدّثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره، ففيه هذا الرجل المجهول.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} قال: نزلت في أخي أمّ سلمة عبد الله بن أبي أمية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {يَنْبُوعًا} قال: عيوناً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: الينبوع: هو النهر الذي يجري من العين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} يقول: ضيعة.
وأخرج ابن جرير عنه {كسفاً} قال: قطعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {قَبِيلاً} قال: عياناً.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً {مّن زُخْرُفٍ} قال: من ذهب.
وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وأبو نعيم عن مجاهد قال: لم أكن أحس ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله: {أو يكون لك بيت من ذهب}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {كِتَابًا نَّقْرَءهُ} قال: من ربّ العالمين إلى فلان ابن فلان. يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها.


حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرّض لإيرادها وردّها في غير موضع فقال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} المراد: الناس على العموم، وقيل: المراد: أهل مكة على الخصوص أي: ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الثاني لمنع، ومعنى {إِذْ جَاءهُمُ الهدى}: أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله، وبيّن ذلك لهم وأرشدهم إليه، وهو ظرف ل {منع} أو {يؤمنوا} أي: ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوّة {إِلاَّ أَن قَالُواْ} أي: ما منعهم إلاّ قولهم، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع، والهمزة في {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً} للإنكار منهم أن يكون الرسول بشراً، والمعنى: أن هذا الاعتقاد الشامل لهم، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلاّ مجرد قول قالوه بأفواههم. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال: {قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ} أي: لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر، ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجاج: {مطمئنين}: مستوطنين في الأرض، ومعنى الطمأنينة: السكون، فالمراد ها هنا: المقام والاستيطان، فإنه يقال: سكن البلد فلان: إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} حتى يكون من جنسهم، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: الأوّل: كون سكان الأرض ملائكة، والثاني: كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب {بشراً} و{ملكاً} على أنهما مفعولان للفعلين، و{رسولاً} في الموضعين وصف لهما. وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من {رسولاً} فيهما وقوّاه صاحب الكشاف، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك. ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي قل لهم يا محمد من جهتك: كفى بالله وحده شهيداً على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة، وقال: {بيني وبينكم} ولم يقل: بيننا؛ تحقيقاً للمفارقة الكلية، وقيل: إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق، ثم علّل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها بصيراً بما كان منها وما يكون.
ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى} أي: من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب {وَمَن يُضْلِلِ} أي: يرد إضلاله {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء} ينصرونهم {مِن دُونِهِ} يعني: الله سبحانه، ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة، وقوله: {فَهُوَ المهتدى} حملاً على لفظ {من} وقوله: {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ} حملاً على المعنى، والخطاب في قوله: {فَلَن تَجِدَ} إما للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين: الأوّل: أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب: قد مرّ القوم على وجوههم: إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، وهذا هو الصحيح، لقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48]. ولما صح في السنة كما سيأتي، ومحل {على وجوههم} النصب على الحال من ضمير المفعول. و{عُمْيًا} منتصب على الحال {وَبُكْمًا وَصُمّا} معطوفان عليه، والأبكم: الذي لا ينطق، والأصمّ: الذي لا يسمع، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، ثم من وراء ذلك {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: المكان الذي يأوون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي: كلما سكن لهبها، يقال: خبت النار تخبو خبواً: إذا خمدت وسكن لهبها. قال ابن قتيبة: ومعنى {زدناهم سعيراً}: تسعراً، وهو التلهب.
وقد قيل: إن في خبوّ النار تخفيفاً لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} [البقرة: 162]؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف: أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر، وقيل: إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها. {ذلك} أي: العذاب {جَزَآؤُهُمْ} الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده، والباء في قوله: {بأنهم كفروا بآياتنا} للسببية أي: بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية، ولا تفكّروا في الآيات التكوينية، واسم الإشارة مبتدأ وخبره {جزاؤهم} و{بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ} خبر آخر، ويجوز أن يكون {جزاؤهم} مبتدأً ثانياً، وخبره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. {وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} الهمزة للإنكار، وقد تقدم تفسير الآية في هذه السورة، و{خلقاً} في قوله: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} مصدر من غير لفظه أو حال أي: مخلوقين، فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود.
فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض *قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: من هو قادر على خلق هذا، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر، وقيل: المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة، وعلى هذا القول هو على حقيقته، وجملة: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} عطف على {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقاً منهنّ كما قال: {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء} [النازعات: 27]. {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم {فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا} أي: أبى المشركون إلاّ جحوداً، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ. ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى}: {أنتم} مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده، أي: لو تملكون أنتم تملكون على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو، وخزائن رحمته سبحانه: هي خزائن الأرزاق. قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحاً وبخلاً، وهو خشية الإنفاق، أي: خشية أن ينفقوا فيفتقروا، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشحّ. قال أهل اللغة: أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى: قلّ ماله، فيكون المعنى: لأمسكتم خشية قلّ المال {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} أي: بخيلاً مضيقاً عليه. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قتراً وقتوراً: ضيق عليهم في النفقة، ويجوز أن يراد: وكان الإنسان قتوراً أي: قليل المال، والظاهر: أن المراد: المبالغة في وصفه بالشح، لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم. بل بعضهم كثير المال، إلاّ أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده. وقداختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة، وبه قال الحسن، والثاني: أنها عامة وهو قول الجمهور، حكاه الماوردي.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال؛ قيل يا رسول الله: كيف يحشر الناس على وجوههم قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم».
وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركباناً، وصنف على وجوههم»، ثم ذكر نحو حديث أنس. وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قال: يعني: أنهم وقودها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} قال: سكنت.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في الآية قال: كلما أحرقهم سعرتهم حطباً، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها، فإذا بدّلوا خلقاً جديداً عاودتهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: {خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى} قال: الرزق.
وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله: {إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} قال: إذا ما أطعمتم أحداً شيئاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} قال: الفقر {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} قال: بخيلاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة {خَشْيَةَ الإنفاق} قال: خشية الفاقة {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} قال: بخيلاً ممسكاً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6